نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الباحة... مختبر التراث الحي: ما الذي لم يستثمر بعد؟ - الهلال الإخباري, اليوم الأحد 29 يونيو 2025 02:34 صباحاً
يشكل «التراث الحي» أحد المفاهيم المتقدمة في الدراسات الثقافية الحديثة، ويقصد به كما تُعرّفه اليونسكو: مجموعة الممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات التي تنتقل من جيل إلى جيل، والتي تمنح المجتمعات الإحساس بالهوية والاستمرارية، وتُمارَس في السياق الحي لا في الأطر الجامدة أو المتحفية، ويختلف هذا المفهوم جذريًا عن «التراث المادي» الذي يُصنّف ويُحفظ ويُعلّق في المتاحف أو يُخزَّن في الأرشيفات، بينما يارس التراث الحي في الحياة اليومية، ويُستثمر في التعليم، والاقتصاد الإبداعي، والتماسك الاجتماعي، ويُعاد إنتاجه في الفضاءات المجتمعية بوصفه جزءا حيا من المعيش.
لقد ظلّت الباحة، عبر قرون، تُنتج تراثها الحي في الحقول والمجالس والأسواق؛ حيث لم يكن الغناء الجبلي طقسًا فنيًا، بل وسيلة لنقل المعرفة، ولم تكن الحِرفة مجرد مهنة، بل مرآة لقيم التعاون والمهارة والجدارة، إلا أن هذا المخزون الثمين أخذ يتراجع حينما تفكّكت أنماط العيش الجماعي، وبدأت صور التراث تنسحب لصالح الاستعراض بدل الممارسة، والتحنيط بدل التدفق.
وفي ضوء هذا التحول، تتوفر في منطقة الباحة الشروط كافة اللازمة لتحوّلها إلى مختبر وطني للتراث الحي، لا من حيث الوفرة التراثية فحسب، بل من حيث تنوع أشكالها: من الفنون الشفاهية واللهجات المحلية، إلى الحرف الريفية، والطقوس الزراعية، وأساليب البناء، والتعبيرات الغذائية والاجتماعية، إلا أن هذه الكنوز الثرية لم تُحوّل بعد إلى منظومة إنتاج معرفي واقتصادي مستدام، بل بقيت رهينة للفلكلرة الموسمية، أو محفوظة على هيئة مشاهد احتفالية أو عروض فولكلورية، دون أن تُفعَّل في بنية التعليم أو السياحة أو الابتكار المجتمعي.
إن مقارنة هذا الواقع المحلي بالتجارب المعيارية في العالم، تكشف فجوة في كيفية توظيف التراث بوصفه أداة حية للتنمية، ففي بلدة بيتوليا - كولومبيا، جرى تحويل مهارات النسيج التقليدي التي تمارسها النساء إلى مورد اقتصادي عبر برامج إقامة تعليمية، يشارك فيها الزوار مع الأسر، ويتعلمون من خلالها المهارات، ويشترون المنتجات، مما ساهم في رفع الدخل الريفي وتوسيع الأثر الثقافي، أما في أوكيناوا - اليابانية، فقد ابتكرت ما يُعرف بـ»مدارس الذاكرة»، وهي فضاءات تعليم غير رسمي يُدرِّس فيها كبار السن الأطفال المهارات التراثية الشفاهية، من الطهي إلى الأهازيج، مما رسّخ التراث الحي بوصفه أداة نقل بين الأجيال، لا مجرد موضوع أرشفة، بينما في بانيالوكا - البوسنة، تحولت الحكايات الشعبية المتوارثة إلى عروض مسرحية موسمية تستقطب الزوار، وتُدرّب الشباب، وتُرمم الصورة الرمزية للمكان بعد تجربة الحرب والدمار.
ما يجمع بين هذه التجارب، رغم اختلاف السياقات الجغرافية والتاريخية، هو تحويل التراث من موضوع للعرض إلى مورد للتعلّم، والتفاعل، والإنتاج، وهو بالضبط ما تحتاجه الباحة اليوم؛ أن تخرج من دورها كموقع للفرجة التراثية، إلى أن تصبح منصة حية لتعلّم الحرف، وإنتاج القصص، وتقديم التجارب التراثية من خلال قوالب معاصرة: برامج تدريب، ورش عمل، قرى تعليمية، أسواق إبداعية، ومتاحف تفاعلية، ويمكن - على سبيل المثال - تحويل قرية «ذي عين» إلى قرية تعليمية للتراث الحي، حيث يتدرب الزوّار على تقنيات البناء بالحجر، ويتعلم الأطفال مهارات الرسم الجداري، وتقدم عروض حية للسوق التقليدي، وحكايات تُروى مساء في المجالس المفتوحة.
لكن الخطر الأكبر يكمن في أن يختزل التراث الحي في صور جامدة للعرض المؤسسي أو الفلكلوري، تُجمِّل التقارير السنوية ولا تُغيّر في الواقع، فحين يُفرغ التراث من تفاعله الحي، يتحول من مورد ثقافي إلى «رمز استهلاكي»، لا يُمكّن المجتمعات ولا يبني اقتصادا.
ولتحقيق هذا التحوّل، لا بد من إعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات الثقافية والتعليمية والسياحية والمجتمع المحلي، بحيث يعاد تصميم نموذج تشغيلي مشترك، تقوده وزارة الثقافة وهيئة التراث بالتكامل مع الجامعات والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني، تحت إطار مؤسسي يهدف إلى بناء اقتصاد تراثي حي، لا يقتصر على العرض بل يُسهم في التمكين.
في ضوء هذا كله، فإن الباحة مرشحة طبيعيا لأن تكون أول نموذج وطني للتراث الحي في المملكة، بوصفها بيئة جبلية غنية، وذاكرة اجتماعية نشطة، وموردا تراثيا قابلا للتنظيم، والتوظيف، والاستدامة، ولا يكفي اليوم أن نُكرّم تراث المكان، بل أن نعيد تشكيله أداة للتنمية، ومصدرا لهوية متجددة، فالمجتمعات لا تُبنى من الحنين، بل من الشجاعة والقدرة على استثمار ذاكرتها في صناعة مستقبلها.
0 تعليق