من البرازيل إلى اليابان: هل ندرّس العربية بالطريقة نفسها؟ - الهلال الإخباري

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من البرازيل إلى اليابان: هل ندرّس العربية بالطريقة نفسها؟ - الهلال الإخباري, اليوم السبت 24 مايو 2025 10:40 مساءً

اختلاف السياقات،

وتكييف الأساليب

في أحد فصولي سألت طلابا من أمريكا اللاتينية عن رأيهم في الكتابة الصامتة، فارتسمت على وجوههم ابتسامات عفوية، وكأنني طلبت منهم ما يخالف طبيعتهم؛ فهم أبناء بيئة تعشق الحركة والصوت والحوار. أما في اليابان، فقد شعرت بالارتباك حين لم يقاطعني أحد بالسؤال. هذا التباين الصغير ظاهريا يعكس عمق الفروقات الثقافية التي تصاحبنا كمعلمي لغة، خاصة في مجال تدريس العربية للناطقين بغيرها. فهل من المنطقي أن نُدرّس اللغة بالطريقة نفسها في البرازيل، اليابان، أو ألمانيا؟الإجابة التي وصلت إليها، بعد أكثر من عقدين في هذا المجال، هي: لا. فتعليم اللغة لا يحدث في فراغ، بل في سياقات ثقافية واجتماعية ونفسية شديدة التباين، وكل سياق يفرض أسلوبه، إيقاعه، وحتى مزاجه.

الدوافع والبيئات: الوجه

الخفي للتعلّم

من تجربتي، تعرفت إلى أن سؤال الطالب عن دافعه لتعلم اللغة هو أكثر ما يساعدني في رسم ملامح الفصل وتكييف المنهج. ربما يظن البعض أنني أسأل بدافع الفضول، أو لأكسب وقتا لتقييم مستوى الطالب اللغوي. لكن الحقيقة أن هذا السؤال يوجهني في بناء المنهج، واختيار المواد الإضافية، وطريقة التحفيز، بل وحتى في رسم صورة مسار الفصل كله. فالمعلم الناجح لا يكتفي بالكتاب المدرسي، بل ينظر إلى اهتمامات طلابه ويقدم محتوى يلامس دوافعهم.

فالطالب الذي يسعى لفهم القرآن ليس كمن يدرس العربية لأسباب مهنية أو اجتماعية. الأول يحتاج مواد دينية مبسطة وتفسيرا للغة الفصحى، بينما الثاني يحتاج تعلم مفردات الحياة اليومية والعبارات المتداولة، وربما مدخلا إلى اللهجات العربية.في زيارتي لبعض الجامعات في أذربيجان، وجدت أن أغلب الطلاب يتعلمون العربية لأغراض الترجمة أو العمل في السلك الدبلوماسي، فكان من الطبيعي أن أوجه المادة نحو اللغة الرسمية والمصطلحات المستخدمة في السياقات السياسية والدولية. أما في البوسنة وروسيا، فقد كانت المفاجأة حين سألت الطلاب عن أول كلمة عربية تعلّموها فقالوا لي «هدهد»! لم تكن كلمة تحية أو تعريف بالنفس، بل مصطلح نادر، جاء من درس في قصة قرآنية، مما يعكس أن بداية تعلمهم جاءت من مناهج دينية لا تركز على الحياة اليومية.

اللغة البرتغالية مثلا، بعيدة صوتيا ونحويا عن العربية، مما يشكل تحديا إضافيا أمام الطالب البرازيلي. كما أن الثقافة التعليمية هناك تميل إلى النشاط والحيوية، مما يتطلب إدخال تمثيل الأدوار، الأغاني، والألعاب التفاعلية. وفي المقابل، طلاب اليابان أو كوريا يفضلون أساليب أكثر تحفظا وتركيزا على الدقة والتكرار. وقد لاحظت خلال محاضرتي في جامعة نوتردام للبنات في كيوتو مدى التحفظ والصمت، الذي لم يكن قلة اهتمام بل احترام لنظام التعليم. أما في إحدى الجامعات الإسلامية بإندونيسيا، فقد أدهشني أن الطلاب لا يعترضون على ما يقوله المعلم احتراما له، مما جعلني أقدم أي نشاط من نوع المناظرات أو النقاشات بعد تمهيد ثقافي مناسب.

الأسلوب والتقنية... لا يمكن نسخهما من بيئة لأخرى

تعلّمي من هذه التجارب جعلني أكثر وعيا بأن الأسلوب الذي يحفز طالبا في القاهرة، قد يربك طالبا في طوكيو. في أمريكا الجنوبية، الطلاب يحبون الأنشطة الجماعية، النقاشات، والألعاب الصفية. بينما في شرق آسيا، قد يمنع الخوف من الخطأ بعض الطلاب من التفاعل. أما في أوروبا الشرقية، فغالبا ما يميل الطلاب إلى التحليل المنطقي وطرح الأسئلة الدقيقة.

لهذا، لا بد أن يكون المعلم مرنا وقادرا على التبديل بين الإلقاء والنشاط، وبين الدقة والمرونة، وألّا يتردّد في تعديل طريقته إذا لزم الأمر. حتى استخدام التكنولوجيا ليس بالفعالية نفسها في كل مكان. فوفق دراسة أجرتها جامعة هلسنكي عام 2022، تبيّن أن 72% من طلاب أوروبا يستخدمون أدوات رقمية مثل Quizlet وMemrise، مقابل 49% فقط في أمريكا الجنوبية، و60% في شرق آسيا.لكن الأمر لا يتعلق بالأرقام فقط، بل بثقافة التعليم نفسها. بعض الطلاب يعتبرون الألعاب الالكترونية مضيعة للوقت، خاصة في ثقافات تعتبر التعليم عملا جادا لا مجال فيه للّهو، كما لمسته في روسيا. والبعض الآخر، مثل بعض الطلاب المتفوقين، لا يحبذ الأنشطة الجماعية لأنها تُخفي تفوقهم الشخصي. وهناك من يخشى أن يرتكب خطأ أمام الآخرين فيشعر بالإحراج.

في هذه الحالات، يكون على المعلم أن يشرح فلسفة التعلم المرح، ويبيّن أن الخطأ ليس دليلا فشل بل مرحلة من التعلّم، وأن اللعب يمكن أن يكون أداة جادة وفعالة. وقد وجدت أن منح الطلاب حرية اختيار مجموعاتهم، وعدم ربط الأخطاء بالأسماء، وتوزيع الأدوار القيادية بينهم، كل هذه الأمور تخلق مناخا يشعر فيه الطالب بالأمان والانتماء والعدالة.

ما لا يتغير رغم تنوّع

اللغات والوجوه

رغم كل هذا التباين بين السياقات، تبقى هناك ثوابت لا تتغير في كل فصل ناجح. بناء علاقة إنسانية قائمة على الثقة والاحترام، وعدم تجاهل الخلفية الثقافية واللغوية للطالب، وربط اللغة بحياته، لا فقط بالكتاب.أحرص دوما على إتاحة المجال للطلاب لتعريف زملائهم بثقافتهم الأصلية، وعلى مكافأة التقدّم حتى لو كان بطيئا. كما أُشركهم في تنظيم الحصة، وفي اختيار المواضيع، حتى يشعروا أن الفصل ليس ملكا للمعلم، بل فضاء مشترك.

باختصار، لا توجد طريقة واحدة لتدريس العربية، بل توجد طرق بعدد البلدان والوجوه التي تمر علينا.فهل نُدرّس العربية بالطريقة نفسها من البرازيل إلى اليابان؟ بالتأكيد لا.لكننا نحمل إليها الشغف نفسه، ونترك لها أن تُعلّمنا نحن أيضا.

أخبار ذات صلة

0 تعليق