نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المبادرة السعودية لحماية الطفل في الفضاء السيبراني: قراءة تحليلية في رؤية الأمير محمد بن سلمان - الهلال الإخباري, اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 12:37 صباحاً
أمام تصاعد هيمنة الفضاء السيبراني على مفاصل الحياة الإنسانية كافة، لم يعد الحديث عن أثر التقنية مقتصرا على الاقتصاد أو التعليم أو التواصل، بل امتد ليشمل مفاهيم الحماية والأمان الشخصي، خصوصا لدى الفئات الهشة كالأطفال، حيث تُعد مبادرة حماية الطفل في الفضاء السيبراني، التي أطلقها صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، مثالا نوعيا على كيفية تحويل الرؤية السياسية إلى مبادرة معيارية دولية، استطاعت أن تحظى بإجماع مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وتُؤسس لمرحلة جديدة في تقاطع حقوق الطفل مع أخلاقيات التقنية.
تقوم المبادرة على فرضية رئيسة مفادها بأن التحولات الرقمية لم تخلق بيئة معرفية محايدة، بل أوجدت فضاء موازيا للواقع، بات يشكّل امتدادا حقيقيا للزمن الطفولي، بكل ما يحمله من فرص ومخاطر، ومن هنا، لم تكن المبادرة استجابة لأزمة طارئة، بل جاءت كفعل استباقي واعٍ، يدرك أن السيادة في القرن الحادي والعشرين تُقاس بقدرة الدول على ضبط منظوماتها الرقمية بما يتسق مع حقوق الإنسان.
وقد اعتمدت مبادرة ولي العهد مقاربة شاملة تعيد تعريف الحماية من كونها تدبيرا عسكريا أو أمنيا إلى كونها ممارسة مدنية أخلاقية تتجذر في مفهوم الأمن الإنساني، فالأطفال اليوم لا يتعرضون للخطر في الشارع أو المدرسة فحسب، بل أيضا داخل غرفهم، عبر منصات تُعيد تشكيل وعيهم وتُعرّضهم لمخاطر متعددة: التنمر الالكتروني، الاستغلال الجنسي، التلاعب النفسي، واختراق الخصوصية.
إن هذا الوعي الجديد استدعى مقاربة متعددة الأبعاد، حيث تدمج المبادرة بين البُعد التشريعي (صياغة أطر قانونية محلية)، والبُعد التربوي (بناء وعي رقمي لدى الأسرة والمدرسة)، والبُعد السيادي (التعاون مع الجهات الدولية لضبط المنصات العالمية وفق التزامات حقوق الطفل).
وتحمل المبادرة عددا من الأركان المفاهيمية الجوهرية، يمكن اختزالها في أربع دعامات:
1 - الوقاية الاستباقية: أي التحرك قبل وقوع الأذى من خلال رفع الوعي، وتشريع أنظمة الحماية، وتمكين الأسرة والمجتمع المدرسي من أدوات المواكبة.
2 - التمكين الآمن: فبدلا من عزل الطفل عن التقنية، تُدافع المبادرة عن تمكينه ضمن بيئة آمنة، ليكون فاعلا رقميا محصّنا لا ضحية متفرجة.
3 - الشراكة الدولية: المبادرة لا تُمارَس داخل الحدود، بل تُبنى على التعاون مع المنظمات الأممية، مثل اليونيسف والاتحاد الدولي للاتصالات، وتُهيّئ فضاء لتبادل الممارسات والخبرات.
4 - التكيّف المحلي: تعترف المبادرة باختلاف السياقات التشريعية والثقافية، وتقترح نموذجا مرنا يمكن مواءمته وفق أولويات الدول دون أن يفقد قيمته العالمية.
وتمثل المبادرة وجها جديدا للحضور السعودي في المشهد العالمي، حيث تتحول المملكة من متلقٍ للأنظمة الدولية إلى منتج لمعايير حقوقية يُحتذى بها، ويُظهر اعتماد القرار بالإجماع في مجلس حقوق الإنسان مدى قبول العالم للرؤية السعودية بوصفها عقلانية وشاملة وغير مؤدلجة، وبهذا لا تكتفي المملكة بالتموضع في المنظومة الدولية، بل تُعيد تشكيل بعض أركانها.
ومن المتوقع أن تُشكّل هذه المبادرة نواة لتأسيس اتفاقية دولية لحقوق الطفل في الفضاء الرقمي، بما يعيد تحديث اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 لتتناسب مع طبيعة التحديات الجديدة، كما يمكن أن تصبح المملكة مركزا إقليميا لتقديم الدعم الفني، والممارسات التشريعية الفضلى، وتدريب الكوادر المختصة، مما يُمكّن الدول النامية من سد فجوة السياسات السيبرانية لحماية الطفولة.
ولا يمكن قراءة هذه المبادرة بمعزل عن الرؤية الكلية التي يقودها سمو ولي العهد، حيث يتكامل الأمن الرقمي مع التنمية الاقتصادية، وتمكين الإنسان مع ضبط التقنية، وحماية القيم مع الانفتاح العالمي، فالمبادرة ليست مشروعا قطاعيا، بل امتدادٌ لرؤية حضارية ترى أن الإنسان، لا المنصات، هو مركز المستقبل، وبذلك يتحول الأمير محمد بن سلمان إلى أحد أوائل القادة الذين لم يكتفوا بتسريع الرقمنة، بل سعوا إلى أخْلَقَتِهَا وتوجيهها لحماية من لا صوت لهم داخل النظام الرقمي العالمي.
وتجسّد المبادرة السعودية لحماية الطفل في الفضاء السيبراني مزيجا نادرا بين الرؤية السياسية، والوعي السيبراني، والحسّ الأخلاقي، وهي بذلك لا تضع فقط حلا لمشكلة قائمة، بل تفتح أفقا جديدا لنقاش عالمي حول العلاقة بين التقنية، والهوية، والكرامة الإنسانية، وفي عالم يزداد فيه حضور الخوارزميات وغياب القيم، تأتي هذه المبادرة لتقول بلغة رصينة: إن التقنية مهما بلغت من الذكاء، لا تُغني عن الإنسان الذي يشكل مركزها ومحركها وحارسها الأمين.
0 تعليق