أمة منقسمة: الحرب الأهلية الأمريكية والحقيقة التي لا يمكن إنكارها عن العبودية - الهلال الإخباري

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أمة منقسمة: الحرب الأهلية الأمريكية والحقيقة التي لا يمكن إنكارها عن العبودية - الهلال الإخباري, اليوم الأربعاء 21 مايو 2025 01:40 صباحاً

عند قراءة تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية، من السهل - بل ومن الرائج في بعض الأوساط - اختزال أسباب الحرب في اختلاف الأنظمة الاقتصادية أو في الخلافات الفكرية حول سلطات الحكومة الفيدرالية وحقوق الولايات. وبعد أكثر من 150 عاما، قد يأمل المرء أن تكون أسباب الحرب قد أصبحت من المسلّمات التاريخية. إلا أن محاولات إعادة كتابة التاريخ لا تزال تظهر بين الحين والآخر، في مساعٍ لطمس الحقيقة الجوهرية.

لكن التاريخ - إن أردنا سرده بصدق - لا يلزم أن يكون مريحا. الحقيقة المزعجة هي أن الحرب دارت حول العبودية. ليس بشكل غير مباشر، ولا كأمر طارئ. العبودية كانت الركيزة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي تأسست عليها الولايات الجنوبية، وعندما أصبحت هذه الركيزة مهددة، اختارت تلك الولايات الانفصال.

لم تكن هذه تخمينات، بل كانت اعترافا صريحا. اتحاد كونفدرالي تأسّس على العبودية في مارس 1861، وضع نائب رئيس الكونفدرالية، ألكسندر ستيفنز، حدا لكل شك في خطاب شهير قال فيه: حكومتنا الجديدة تقوم على مبدأ مناقض تماما [لمبدأ المساواة]؛ حجر الزاوية فيها هو الحقيقة العظيمة بأن الزنجي ليس مساويا للرجل الأبيض، واعتبر أن العبودية هي الوضع الطبيعي للأفارقة.

لم تكن هذه الكلمات شذوذا عن السياق بل كانت تعبيرا عن العقيدة الرسمية، فالوثائق التي أعلنت انفصال ولايات الجنوب مثل ميسيسيبي وجورجيا وكارولاينا الجنوبية وتكساس لم تلجأ إلى الغموض أو التلميح. بل صرّحت بوضوح أن الحفاظ على العبودية هو السبب الرئيس للانفصال. وصرّحت ميسيسيبي علنا أن اقتصادها وثقافتها مرتبطان تماما بمؤسسة العبودية. هذه ليست كلمات مؤرخين معاصرين يحاولون تفسير نوايا الجنوب، بل هي كلمات الجنوب نفسه.

خرافة «حقوق الولايات»
أولئك الذين يسعون لتبرئة الكونفدرالية، غالبا ما يستندون إلى ما يسمونه «حقوق الولايات»، وكأن القضية كانت دفاعا شريفا عن الفيدرالية. لكن السؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: الحق في ماذا بالضبط؟

الإجابة، كما تكررت في الخطب والمقالات والوثائق الرسمية، كانت واضحة: الحق في امتلاك العبيد وزيادة عددهم. حتى الخلافات التي ظهرت بين الشمال والجنوب بشأن تفسير الحقوق الدستورية، كانت في جوهرها تتعلق بالعبودية. فعندما حاولت نيويورك منع أصحاب العبيد من إدخال عبيدهم إلى مانهاتن، اعتبرت ميسيسيبي ذلك انتهاكا لحقوقها. ولكن الحق المقصود هنا، مجددا، هو حق امتلاك البشر.

بالتالي، لم تكن حقوق الولايات هدفا في حد ذاتها، بل كانت أداة لتحقيق الهدف الحقيقي: استمرار العبودية.

حجة اقتصادية بلا بوصلة أخلاقية
هناك من يرى أن الحرب كانت نتيجة توتر اقتصادي - أي أن الشمال الصناعي والجنوب الزراعي أصبحا متباعدين جدا، لكن هذا الطرح مضلل أيضا، فكلا المنطقتين كانتا زراعيتين إلى حد كبير في منتصف القرن التاسع عشر، الفارق الحقيقي كان في نموذج العمل.

في الشمال كان العمال يتقاضون أجورا، أما في الجنوب، فكانت النخبة الزراعية تستغل العبيد في عمل قسري بلا أجر. العبودية كانت المحرك الحقيقي للاقتصاد الجنوبي ولثقافته ولتركيبته الاجتماعية. لم تكن العبودية نتيجة للحياة الجنوبية بل كانت أساسها.

ولم يكن ذلك حكرا على الطبقة الغنية المالكة للعبيد، فحتى الفقراء من البيض الذين لم يملكوا عبيدا كانوا يؤيدون النظام، لأنه ضمن لهم مكانة اجتماعية فوق العبيد. لقد خدمت العبودية كأداة نفسية وثقافية، إلى جانب كونها أداة اقتصادية.

لينكولن وصحوة الضمير
عندما تولّى أبراهام لينكولن الرئاسة، كان هدفه الحفاظ على وحدة الاتحاد، لا إنهاء العبودية، لكنه سرعان ما أدرك أن الهدفين لا يمكن فصلهما. ففي خطاب عام 1858 قال: البيت المنقسم على ذاته لا يمكن أن يصمد. وكان يرى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تبقى إلى الأبد نصفها حر ونصفها عبد.

وبحلول عام 1863، أصبحت البوصلة الأخلاقية أكثر وضوحا في رؤية لينكولن، وأصدر إعلان التحرير الذي جعل من إنهاء العبودية هدفا رسميا للحرب. لم تكن القضية قضية حدود أو أنظمة حكم، بل قضية ضمير الأمة.

عبرة للعالم العربي
ولماذا على القارئ العربي أن يهتم بهذه القصة؟ لأن العبودية، بصورها المختلفة، ليست حكرا على حضارة بعينها ولا على حقبة زمنية دون غيرها. فالعبودية المُؤَسَّسة - بمعناها الاقتصادي والسياسي - عايشها تاريخ منطقتنا أيضا من أسواق العبيد إلى ختان البنات. ولا ننسى الإمبريالية الغربية والعبودية الاقتصادية والاستعمار.

العبرة من الحرب الأهلية الأمريكية ليست أن أمريكا تفرّدت بممارساتها الظالمة، بل إن العبرة الحقيقية هي أن على المجتمعات أن تواجه هذه الممارسات بصراحة وشجاعة لتتجاوزها. فالجنوب بنى نظام قوته على الاستعباد، وعندما هُدِّد هذا النظام، فضّل الحرب على العدالة.

واليوم، علينا أن نسأل أنفسنا: ما المؤسسات أو التقاليد التي نتمسك بها، لا لأنها عادلة، بل لأنها مألوفة؟ ما الخصوصيات التي نبررها رغم أنها تتعارض مع ضميرنا الأخلاقي والإسلامي؟

الفداء عبر النضال
لقد دفعت الولايات المتحدة ثمنا باهظا بسبب تجاهلها لضميرها الأخلاقي. فالحرب الأهلية الأمريكية هي أكثر الحروب دموية في تاريخها، لكن من تلك المحرقة خرجت نهاية للعبودية وإعادة تشكيل لهوية البلاد.

ما يقارب 200 ألف جندي أسود - كثير منهم كانوا عبيدا - قاتلوا تحت راية الاتحاد من أجل إسقاط النظام الذي سلبهم إنسانيتهم. وبهذا النضال استعادوا كرامتهم وغيّروا مجرى التاريخ الأمريكي.

العبودية كانت وصمة في تاريخ أمريكا، لكن استعدادها لخوض حرب لإنهائها هو من أكثر فصولها إنصافا للذات.

في النهاية، الحقيقة واضحة: الحرب الأهلية الأمريكية كانت عن العبودية. تجاهل هذه الحقيقة لا يغيّر التاريخ، بل يحجب دروسه. والتاريخ حين يُروى بأمانة، يُصرّ على أن يُستذكر.

mr_alshammeri@

أخبار ذات صلة

0 تعليق