نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المهمة - الهلال الإخباري, اليوم السبت 12 يوليو 2025 11:30 مساءً
تُعد وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أحد أكثر الأجهزة نفوذاً وغموضاً في التاريخ المعاصر. منذ تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت دوراً محورياً في توجيه السياسات الخارجية للولايات المتحدة، والتدخل في مصائر دول، وتحديد معالم الحرب والسلم. غير أن الوكالة لم تكن دائماً على وفاق مع البيت الأبيض، ولا دائماً على صواب في تقييماتها. وفي القرن الحادي والعشرين، وجدت نفسها أمام تحديات غير مسبوقة: من هجمات 11 سبتمبر إلى الحروب المفتوحة، ومن التجسس الإلكتروني إلى الصراع مع رؤساء يرون فيها تهديداً داخلياً. هذه قصة جهاز يتغيّر... وتكاد تتغيّر معه قواعد اللعبة كلها.
في عمله الجديد، يقدم الصحفي الحائز جائزة بوليتزر تيم وينر كتابه «المهمة»، الذي يُعد استكمالاً لكتابه السابق «إرث من الرماد». هذه المرة، يغوص في تحليل شامل وموثق لدور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلال العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، كاشفاً عن تحوّلاتها، إخفاقاتها، وصراعاتها مع خصوم خارجيين وداخليين على حد سواء.
تحوّلات الوكالة بعد 11 سبتمبر
عند مطلع الألفية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية تمرّ بحالة من التراجع الحاد. بعد نهاية الحرب الباردة، تقلّصت مهام الوكالة وأُغلقت عشرات القواعد في الخارج، وانخفضت القدرة على جمع المعلومات الحساسة. لكن هجمات 11 سبتمبر 2001 شكّلت نقطة تحوّل جذرية. سرعان ما تحوّلت الوكالة إلى قوة شبه عسكرية، ركزت على الاغتيالات بطائرات الدرون، والسجون السرية، وعمليات الاستجواب العنيفة، على حساب مهامها الأصلية في التجسس ومكافحة التجسس.
يدفع الكتاب بأن هذا التحوّل كلّف الوكالة كثيراً: فقدت عملاء محليين، تعرّضت للاختراق من قبل الصين وروسيا، وخسرت السيطرة على أدواتها السيبرانية. ويظهر أن هذه الانعطافة أثّرت سلباً على قدرتها في مواجهة خصومها الأخطر: موسكو، بكين، طهران، لا سيما في عصرٍ أصبح فيه الفضاء الإلكتروني ساحة صراع استخباراتي رئيسية.
ويُبرز تيم وينر جانباً حساساً من العلاقة المتوترة بين الوكالة والرئاسة الأمريكية، مشيراً إلى أن بعض الرؤساء (ضمنياً ترامب) نظروا إلى وكالة الاستخبارات المركزية كجهاز متمرّد أو معارض، ما عمّق أزمة الثقة بين السلطة التنفيذية والجهاز الاستخباراتي الأعلى في البلاد.
يشير المؤلف إلى أن هذا الكتاب هو أول سجل شامل لوكالة الاستخبارات المركزية في القرن الحادي والعشرين، يُروى على لسان من عاشوه. مما يقوله: «وكما حدث عندما بدأت تغطية شؤون الوكالة، وجدت عدداً مذهلاً من الأشخاص وافقوا على التحدث إليّ. لقد قاتلوا في العراق وأفغانستان وباكستان وسوريا وفي عشرات الدول الأخرى. أداروا حملات تجسس من البحر المتوسط إلى المحيط الهادئ. واجهوا تحقيقات جنائية بسبب عملياتهم القاتلة في مكافحة الإرهاب والمخدرات. كافحوا للتسلل إلى الكرملين ونجحوا. بنوا خطوط إمداد سرية للجنود والجواسيس في أوكرانيا. من بينهم الرجل الذي أنشأ نظام السجون السرية، والمرأة التي ساعدت على إسقاط أكبر شبكة تهريب لتكنولوجيا الأسلحة النووية في العالم، وجاسوس تحت غطاء عميق وضع رؤساء دول على جدول رواتبه، ورؤساء مكاتب في أربع قارات، ورئيس جهاز العمليات السرية الحالي في الوكالة، رجل قضى ثلاثة وثلاثين عاماً في العمل السري ولم يتحدث قط مع أي صحفي في حياته. وبفضل صراحتهم وثقتهم، كُتب هذا الكتاب على السجل الرسمي، دون مصادر مجهولة أو اقتباسات مغفلة».
شهادات من الداخل
يقول المؤلف: «دخلت مقرّ وكالة الاستخبارات المركزية لأول مرة عام 1988، كنت حينها صحفياً شاباً عائداً من أفغانستان، حيث كنت أُعدّ تقريراً عن شحنات الأسلحة الضخمة التي كانت ترسلها الوكالة إلى المجاهدين ضد الغزو السوفييتي. حاولت قبل السفر الحصول على إيجاز رسمي، فقوبلت بالرفض، لكن فور عودتي، تلقيت اتصالاً يدعوني إليه. لم أكن أعلم أنني بصدد اكتشاف ما سيكون دعوة حياتي المهنية. عندما دخلت مقر الوكالة في لانغلي، لفتني اقتباس من إنجيل يوحنا على الجدار: (وتعرفون الحق، والحق يحرّركم). تساءلت: هل يمكن فعلاً معرفة الحقيقة عن وكالة تعمل في الظل؟ وكان السبيل الوحيد هو الاستماع لقدامى العاملين فيها وفهم طبيعة عمل جهاز استخبارات سرّي في نظام ديمقراطي».
ويضيف: «بعد أشهر، تحدثت مع ريتشارد هِلمز، المدير السابق للوكالة خلال رئاستي جونسون ونيكسون، والذي أُقيل لرفضه التستّر على فضيحة ووترغيت. كان هلمز من المؤسسين، وترأس جهاز العمليات السرّية خلال أحداث كبرى مثل أزمة الصواريخ الكوبية. خلال لقاءات مطوّلة، قدّم لي دروساً عميقة في تاريخ الوكالة. قال إن مهمتها عند التأسيس كانت (معرفة العدو) من خلال الجواسيس والتحليل، لكن مع توسّع النفوذ السوفييتي بعد الحرب، تغيّرت المهمة إلى (تغيير العالم) عبر عمليات سرّية. وقد اعتبر هلمز هذا التحوّل خطأً مأساوياً».
ويتابع المؤلف: «بحلول عام 1950، كانت الوكالة قد أنشأت جيشاً شبه عسكري، وأطلقت عمليات توغل خطيرة خلف خطوط العدو في روسيا وأوروبا الشرقية والصين وكوريا الشمالية. معظم هذه العمليات فشلت وكانت بمثابة مهمات انتحارية، بسبب تسريب خططها لجواسيس الشيوعيين. وظلت هذه الإخفاقات سراً لسنوات، مثلها مثل الانقلابات العنيفة ومحاولات الاغتيال التي تورّطت فيها الوكالة لاحقاً. كان هلمز قد حافظ على سرّيتها، لكن خلفاءه لم يفعلوا، وكان الثمن باهظاً».
يوضح المؤلف قائلاً: «أرادني هلمز أن أفهم أن كل رئيس أمريكي منذ ترومان أصدر أوامر للوكالة بالتدخل بالسلاح والمال لرسم مصير الدول، حين لم يكن إرسال قوات المارينز خياراً متاحاً. نفّذ ضباطها ما طُلب منهم. كانوا يطبّقون السياسة الخارجية للولايات المتحدة. واستمدّوا قوتهم مباشرة من القائد الأعلى للقوات المسلحة. وكان مديرو الوكالة وجواسيسها ومحللوها يعتمدون على ثقة الرئيس بالاستخبارات التي يقدّمونها؛ فإذا لم يُصدّقهم، لم يكن لهم أي فائدة. وتعلّموا أن إبلاغه بما لا يريد سماعه قد يكون أمراً محفوفاً بالمخاطر».
دروس القرن الجديد
يبين الكاتب أن الوكالة شهدت تحوّلين كبيرين منذ بداية القرن الحادي والعشرين. في البداية، لم تكن تعرف شيئاً يُذكر عن تنظيم القاعدة، وفشلت في منع كارثة كانت أشد دماراً من بيرل هاربر. ثم جاءت تقاريرها الكاذبة عن «التهديدات الوجودية» لتُرعب البيت الأبيض وتُشعل فتيل الحرب الكارثية على العراق. وكانت هذه الكوارث نتيجة نقص حاد في المعلومات الاستخباراتية الجيدة. على مدى العقد الماضي، ومع تراجع «الحرب على الإرهاب»، عادت الوكالة تدريجياً إلى مهمتها الأصلية في التجسس. يُطلب من جواسيسها اليوم مجدداً أن يفهموا نوايا وقدرات أعداء الولايات المتحدة في موسكو وبكين وطهران وبيونغ يانغ. حرب باردة جديدة تتصاعد ببطء نحو خطر وجودي. وحدها الاستخبارات الجيدة يمكن أن تمنع هجوماً مفاجئاً، أو سوء تقدير مميت، أو حرباً عبثية. لكن حتى أفضل المعلومات الاستخباراتية لن تُجدي نفعاً إذا رفض القائد الاستماع إليها.
ويبين أنه من بين أكبر التحديات التي ستواجهها وكالة الاستخبارات المركزية في الأيام القادمة: الرجل الذي يشغل البيت الأبيض. والرسالة التي ينتهي بها وينر واضحة: على وكالة الاستخبارات المركزية أن تعود إلى جذورها، وتستعيد جوهر مهمتها الأولى وهي اعرف عدوك، لأن مستقبل العالم الحر قد يعتمد على ذلك.
أخبار متعلقة :