نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
اغتيال العقول.. حرب الظل الإسرائيلية ضد العلماء النوويين من 1948 حتى 2025 - الهلال الإخباري, اليوم الجمعة 20 يونيو 2025 04:29 مساءً
منذ اللحظة الأولى لإعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، أدركت القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب أن التفوق العلمي هو حصن البقاء الأول للدولة الوليدة في قلب محيط عربي معادٍ، ولم يكن الأمر فقط متعلقا ببناء جيش قوي أو صناعة أسلحة تقليدية، بل كان التحدي الحقيقي هو امتلاك المعرفة ومنع الأعداء من امتلاكها، ومن هنا ولدت أخطر حرب سرية في العصر الحديث حرب اغتيال العلماء النوويين.
رأت إسرائيل أن أكبر خطر وجودي يهدد أمنها القومي هو امتلاك الدول العربية أو الإسلامية للسلاح النووي، لكنها في الوقت ذاته أدركت أن الطريق إلى هذا السلاح يمر أولًا عبر العقول، العقول التي تنتج الأفكار، تصمم التكنولوجيا، وتشرف على تحويل النظريات العلمية إلى مشاريع واقعية، لذلك تبنت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بقيادة جهاز الموساد، سياسة مركبة عنوانها، تصفية العقول قبل أن تنضج المشاريع.
البداية كانت مبكرة للغاية، مع نهاية خمسينيات القرن الماضي، كانت مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر تخطو خطوات أولى جادة لبناء برنامج نووي سلمي يمكن أن يتحول لاحقًا إلى قوة ردع عسكرية، هنا بدأ الموساد في مراقبة العلماء المصريين في الداخل والخارج، مستهدفًا كل من يعود بخبرات من أوروبا وأمريكا.
في عام 1967، توفي الدكتور سامي نجيب، أحد أبرز علماء الذرة المصريين في حادث سيارة في ولاية ميشيغان الأمريكية، ورغم تسجيل الحادث رسميًا كحادث سير عادي، إلا أن الأوساط الاستخباراتية المصرية والعديد من التقارير الغربية أشارت إلى ضلوع الموساد في تدبير الحادث لمنعه من العودة إلى بلاده حاملًا خبرات متقدمة حصل عليها خلال عمله في عدة مشروعات أمريكية وأوروبية.
لكن العملية الأكثر وضوحًا كانت اغتيال الدكتور يحيى المشد، أستاذ الهندسة النووية المصري الذي كان يعمل مع البرنامج النووي العراقي في أواخر السبعينات، في أحد فنادق باريس عام 1980، عُثر على جثته مخنوقًا في غرفته بالفندق دون أي آثار اقتحام أو سرقة، ورغم محاولات فرنسا التكتم على تفاصيل التحقيقات، إلا أن كل الدلائل أشارت إلى عملية دقيقة نفذها الموساد، والمشد كان يمثل حجر الزاوية في المشروع العراقي بالتعاون مع فرنسا لبناء مفاعل "تموز"، الذي استشعرت إسرائيل خطورته مبكرًا.
لم تكتف إسرائيل باغتيال المشد فقط، بل استكملت ضربتها لاحقًا في يونيو 1981 عندما شنت طائراتها الحربية غارة مباغتة على مفاعل تموز العراقي ودمرته بالكامل فيما عُرف بعملية "أوبرا"، وكانت هذه أولى رسائل إسرائيل بأن أي مشروع نووي في المنطقة مصيره الإجهاض مهما كلف الأمر.
بعد سنوات من هذه الضربة، وتحديدًا بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، شهدت بغداد وحواضر العراق موجة من الاغتيالات الصامتة التي استهدفت بشكل ممنهج عشرات العلماء العراقيين الذين شاركوا سابقًا في برامج الطاقة النووية أو الكيميائية أو الفيزيائية، وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن أكثر من 70 عالمًا عراقيًا تمت تصفيتهم عبر عمليات اغتيال غامضة نفذها عملاء محليون تحت إشراف الموساد بالتنسيق مع قوات خاصة أمريكية هدفت إلى تصفية أي إرث علمي قد يشكل خطرًا في المستقبل.
لكن مع نهاية التسعينات، نقل الموساد تركيزه إلى ما سماه بعض الخبراء "العقول الرمادية"، أي الجيل الثاني من العلماء الشباب الذين قد يصبحون نواة لأي مشروع طموح مستقبلًا، ولم تعد التصفية تقتصر على العلماء المرتبطين مباشرة بمشاريع تسليحية، بل توسعت الدائرة لتشمل خبراء الفيزياء التطبيقية والمواد المتقدمة.
في باريس عام 1991، توفي العالم اللبناني رامال رباح رمال المتخصص في فيزياء المواد المكثفة في ظروف غامضة للغاية، رغم كونه أحد ألمع العقول البحثية على مستوى أوروبا، وفي القاهرة عام 1993، توفي الدكتور جمال حمدان في حريق شب في شقته وسط شائعات قوية تؤكد أنه كان على وشك الانتهاء من مؤلف جديد يتناول الجغرافيا السياسية النووية في الشرق الأوسط متضمنًا معلومات حساسة عن توازنات القوة في المنطقة، وهو ما قد يفسر استهدافه.
لكن التحول الاستراتيجي الأضخم في عمليات الموساد جاء مع تصاعد البرنامج النووي الإيراني بعد 2005، حين اعتبرت تل أبيب طهران التهديد الأخطر على وجودها، فبدأت حملة منظمة غير مسبوقة لاغتيال أبرز علماء الذرة الإيرانيين، والتي يمكن اعتبارها أجرأ حملات الاغتيال في العصر الحديث.
في عام 2007، توفي العالم الإيراني أرسدير حسينبور بطريقة غامضة قيل إنها بسبب تسرب إشعاعي أثناء عمله، ولاحقًا تبين أن عملية تسميم معقدة قد تمت بالتنسيق بين عناصر داخلية وأطراف خارجية يرجح ارتباطها بالموساد، وفي عام 2010، اغتيل العالم مسعود علي محمدي بعد تفجير قنبلة عن بُعد زُرعت في دراجة نارية أمام منزله بطهران، وخلال أقل من عام، قُتل مجيد شهرياري بعد تفجير قنبلة مغناطيسية لصقت بسيارته، فيما نجا زميله فريدون عباسي من محاولة اغتيال مماثلة.
لم تتوقف السلسلة عند هذا الحد، ففي 2011، أُطلق الرصاص على داريوش رضائي نجاد أمام منزله وأمام أعين زوجته وطفله، بينما اغتيل مصطفى أحمدي روشن في 2012 بانفجار قنبلة مغناطيسية زرعت أسفل سيارته في وضح النهار.
كل هذه العمليات تمت على الأراضي الإيرانية في قلب طهران والمدن الكبرى، ونفذها عملاء مدربون بتقنيات متطورة تجمع بين العمل المخابراتي الكلاسيكي والاختراق الإلكتروني، وسط تغطية إعلامية دولية كانت تراقب بحذر دون أن تتدخل.
في نوفمبر 2020، سجلت إسرائيل أخطر عملية اغتيال تكنولوجية في سجل الموساد باغتيال محسن فخري زاده، مهندس البرنامج النووي العسكري الإيراني ورئيس منظمة الأبحاث الدفاعية، وتمت العملية بسلاح آلي يتم التحكم فيه عن بعد عبر الأقمار الصناعية باستخدام الذكاء الاصطناعي، دون تواجد أي عنصر بشري في الميدان، ليعلن الموساد دخوله عصر الجيل الرابع من الاغتيالات.
مع دخول عام 2025، بدأت مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا في حرب العقول بين إسرائيل وإيران، ولم تعد العمليات تقتصر على الرصاص والقنابل المغناطيسية، بل امتدت لتشمل الحرب السيبرانية والهجمات بطائرات مسيّرة عالية الدقة استهدفت مراكز أبحاث ومنشآت ناتنز وفوردو النووية الإيرانية، إلى جانب محاولات اغتيال جديدة لبعض القيادات العلمية الشابة التي برزت داخل البرنامج الإيراني خلال السنوات الأخيرة.
طورت إسرائيل بشكل متسارع أدواتها في عمليات الاغتيال، معتمدة على مزيج من أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة الصغيرة ذات القدرة على تنفيذ عمليات قتل دقيقة دون اكتشافها، إضافة إلى توظيف برامج تتبع إلكترونية عالية الحساسية لرصد تحركات الأهداف وتحديد الثغرات الأمنية لديهم بدقة متناهية.
وإن كانت إسرائيل قد نجحت عبر هذه العمليات في إبطاء وتيرة برامج نووية في العراق وسوريا وإيران، إلا أن هذه النجاحات جاءت بكلفة استراتيجية أخلاقية باهظة، حيث اتُهمت مرارًا دوليًا بممارسة إرهاب الدولة والاغتيال خارج القانون الدولي، كما أن نتائج هذه السياسة دفعت خصومها إلى تطوير قدراتهم في مجالات التجسس والهجمات السيبرانية وحروب الوكالة.
في النهاية، يبقى اغتيال العلماء النوويين أخطر معارك الحروب الاستخباراتية الحديثة، لأنها تستهدف المادة الخام الحقيقية لبناء القوة وهي العقول المفكرة، فإسرائيل لم تحارب السلاح النووي بشكل مباشر بقدر ما حاربت من ينتج هذا السلاح، فكانت النتيجة حرب ظل ممتدة بلا جبهات ولا مدافع، لكنها أخطر وأعمق من كل الحروب التقليدية مجتمعة.
0 تعليق