نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
أندريه بلوين وذاكرة التحرر.. صوت نسائي من قلب إفريقيا - الهلال الإخباري, اليوم السبت 17 مايو 2025 11:21 مساءً
غالباً ما تركّز روايات التحرر الوطني في إفريقيا على القادة الرجال ومحطات الانفصال عن الاستعمار، متجاهلة أدوار النساء وتجارب الفاعلين الميدانيين. غير أن شهادات من عايشن النضال عن قرب تكشف جوانب أعمق من التاريخ، وتعيد الاعتبار لمسارات ظلّت طويلاً خارج السرد الرسمي.
صدر عن دار «فيرسو» البريطانية في يناير (كانون الثاني) 2025 طبعة جديدة من كتاب «وطني، إفريقيا: السيرة الذاتية للباشوناريا السوداء» ضمن سلسلة تركز على أصوات الجنوب العالمي، ويقع في 304 صفحات. تروي المناضلة السياسية أندريه بلوين في هذا العمل سيرة حياة امتدت لعقود من الكفاح ضد الاستعمار، مقدّمة شهادة نادرة من قلب التحولات التي شهدتها القارة الإفريقية في منتصف القرن العشرين.
لقّبت بلوين ب«الباشوناريا السوداء» في إشارة إلى المناضلة الإسبانية دولوريس إيباروري، المعروفة ب«لا باشوناريا»، التي عُرفت بخطابها الثوري خلال الحرب الأهلية الإسبانية. يحمل هذا التشبيه طابع الإعجاب الخطابي، ويشير إلى حضورها السياسي القوي وموقعها المحوري داخل حركات التحرر الإفريقية، بصفتها امرأة أسهمت بفاعلية في صناعة القرار والنضال، في مجال ظل لسنوات طويلاً حكراً على الرجال.
تبدأ السيرة من الطفولة المبكرة لبلوَين في مستعمرات إفريقيا الاستوائية الفرنسية، حيث وُضعت في دار أيتام بعد أن هجرتها والدتها في سن الثالثة، وتعرضت لإهمال وسوء معاملة طويلين داخل مؤسسة رهبانية استعمارية. أُجبرت لاحقاً على زواج مُرتب وهي في الخامسة عشرة، لكنها تمردت على المصير الذي فُرض عليها. نقطة التحول المفصلية في حياتها جاءت بعد وفاة ابنها الذي لم يتجاوز العامين، نتيجة رفض السلطات الفرنسية منحه علاجاً للملاريا بسبب أصوله العرقية المختلطة. كان ذلك الحدث شرارة انخراطها في العمل السياسي.
في سيرتها، تستعرض بلوين تجربتها من موقع الفاعل السياسي، متنقلة بين عواصم إفريقية وحركات تحرر متعددة، وموثّقة علاقاتها المباشرة بقادة بارزين، مثل الرئيس سيكو توري في غينيا، والرئيس كوامي نكروما في غانا، وباتريس لومومبا في الكونغو، حيث عايشت لحظة اعتقاله واغتياله عن قرب. تقدم هذه الحكايات بوصفها تذكارات شخصية وإضاءة على تعقيدات اللحظة التاريخية التي كانت فيها، وعلى التفاعلات الداخلية التي قلّما تظهر في الروايات الرسمية.
يتجاوز الكتاب السرد الكلاسيكي للثورات، فهو يلامس البُعد التنظيمي لحركات التحرر، ويتأمل في العلاقات البينية داخلها، والصراعات التي تشكّلت في ظلها. تعيد بلوين الاعتبار لدور النساء في النضال، لا باعتبارهن ملحقات بالحركة، بل كصاحبات موقع وقرار، في رواية تضيء ما غيّبته الرؤية الذكورية والمؤسسات الاستعمارية معاً. ويبدو أسلوب السرد الذي تعتمده بلوين واضحاً ومباشراً، ويخلو من الانفعال الخطابي رغم وطأة التجربة، ويُركّز على إبراز المعنى السياسي والإنساني وراء كل محطة. فما تكتبه هو سعي إلى تقديم سردية جمعية تتقاطع فيها المعاناة مع الوعي، والفقد مع التصميم على الاستمرار.
يمكن القول في الختام: إنه في سياق يتجدد فيه الاهتمام بإرث حركات التحرر الوطني، تبرز هذه السيرة بوصفها وثيقة نادرة تكشف ما يتجاوز الحدث السياسي المباشر، وهي شهادة تعيد رسم ملامح النضال من زوايا غائبة عن السرديات الرسمية. ورغم وطأة الإرث الاستعماري، تظل الذاكرة الإفريقية غنية بمسارات مقاومة حيّة، تتيح من خلال شهادات كهذه فرصة لاستعادة التاريخ من الداخل، بتفاصيله الدقيقة ونبرته الأصيلة، وبصوتٍ يعيد لإفريقيا مكانتها كذات فاعلة في كتابة مصيرها.
0 تعليق