نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عيسى يوسف: إنجاز «الفاية» لحظة فارقة في مسيرة الإمارات - الهلال الإخباري, اليوم السبت 19 يوليو 2025 11:01 مساءً
يمثل إدراج موقع «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية» ضمن قائمة التراث العالمي ل «يونيسكو» لحظة فارقة في مسيرة الإمارات نحو صون الإرث الحضاري وتعزيز الهوية الوطنية. إنه تتويج لمسار طويل من العمل البحثي والميداني والتوثيقي، يعكس التقاء الرؤية الوطنية بالجهود العلمية لحماية الآثار بوصفها إحدى الركائز الأساسية للهوية.
إن هذا الإدراج يُعد إعلاناً عالميّاً جديداً عن موقع الإمارات على خريطة الحضارة الإنسانية، من خلال موقع موثّق يروي فصولاً من القصة الكبرى لوجود الإنسان على وجه الأرض منذ أكثر من 200 ألف عام، كما يفتح الموقع نافذة علمية فريدة لفهم بدايات الهجرة البشرية في بيئات قاسية، فقد أثبتت دراسة نشرت في مجلة «Science» في عام 2011، قادها فريق ألماني- إماراتي برئاسة البروفيسور هانز-بيتر أوربربنك، أن الأدوات الحجرية المكتشفة في «الفاية 1» تعود إلى نحو 125 ألف عام.
هذا الاكتشاف شكّل تحدياً مباشراً للنظرية التقليدية حول خروج الإنسان العاقل من إفريقيا، والتي رجّحت سابقاً أن تلك الهجرة حدثت قبل نحو 70 إلى 80 ألف سنة فقط، ويشير هذا الاكتشاف إلى أن الجزيرة العربية، وتحديداً الفاية، كانت من أقدم المسارات التي سلكها الإنسان العاقل في رحلته نحو آسيا.
لم يكن لهذا الإنجاز أن يتحقق لولا الرؤية الاستباقية والدعم المستمر من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي منح حماية وصون الآثار والموروث الثقافي مكانةً مركزية في مشروعه الحضاري والمعرفي. ومنذ البدايات الأولى لأعمال التنقيب في منطقة مليحة التي حظيت بعناية استثنائية من سموه، آمن بأن الآثار ليست مجرد بقايا من ماضٍ محفوظ، بل تحمل قيمة علمية ووطنية، وتشكل مشروعاً متجدداً يستشرف المستقبل، ويعبر عن إحدى أهم محطات التاريخ الإنساني على أرض الإمارات. ومن هنا، جاء إنشاء «منتزه مليحة الوطني» عام 2024 امتداداً طبيعيّاً لهذا المسار الإنساني العميق.
ويُسجّل لهذا الإنجاز دور محوري قادته الشيخة بدور بنت سلطان القاسمي سفيرة ملف الترشيح الدولي «المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية»، مؤمنة بأن رسالة التراث لا تقف عند حدود المواقع الأثرية، بل تتجاوزها إلى التعبير عن التعدد والحوار، وإيصال قصة الوطن بلغة إنسانية معاصرة، تجسّد روح الإمارات كدولة حارسة للذاكرة، وحاضنة للتنوع.
تركزت الجهود الميدانية والعلمية لهيئة الشارقة للآثار على مدى عقود في تعزيز المعرفة الأكاديمية حول موقع الفاية، من خلال شراكات دولية مع نخبة من المؤسسات البحثية المرموقة. وتمثلت خصوصية «الفاية» في تنوع الشواهد التقنية التي يقدمها، فقد كشفت البعثات الأثرية آلاف الأدوات الحجرية، تتضمن تقنيات معروفة مثل Levallois وNubian Complex، وهي تقنيات ترتبط بأدوات مستخدمة في شرق وشمال إفريقيا، وهو ما يعزز فرضية «الهجرة الساحلية الجنوبية» للإنسان العاقل من القارة الإفريقية، ويعكس مستوى متقدماً من التفكير والتخطيط لدى الإنسان القديم، بما يُعرف في الأدبيات العلمية ب Cognitive complexity. وتضمنت أعمال التنقيب والتحليل خلاصة سنوات من البحث، استُثمرت في إعداد ملف ترشيحٍ ارتكز على قاعدة معرفية راسخة، ورؤية علمية تراعي دقة المعايير الدولية، وتضع المحتوى المحلي ضمن سياق إنساني شامل.
ولم تقتصر جهود الهيئة على جمع الشواهد المادية فحسب، بل طورت أدوات العرض والتأطير والتفسير، لتكون الاكتشافات الأثرية مفهومة ومؤثرة، قابلة للقراءة في أروقة الثقافة والتعليم والدبلوماسية، ورافعة لوعي مجتمعي أعمق. لقد كان الهدف منذ البداية أن يكون الموقع مفهوماً ثقافيّاً، ومُصنفاً عالميّاً، ومتصلاً بالأجيال، يحوِّل الفضاء الصامت إلى قصة ناطقة، تستلهمها المؤسسات وتفهمها العقول الناشئة.
ولا يمثل هذا الإنجاز خاتمة لمرحلة، وإنما بداية لمسؤوليات أكبر في تعزيز دور الآثار في تشكيل الوعي العام، وتحفيز قطاعات التعليم، والسياحة المستدامة، والدبلوماسية الثقافية. فالفاية، وقد أصبحت اليوم موقعاً عالميّاً، تشكّل رسالة للأجيال المقبلة بأن الانتماء يبدأ من الذاكرة، وأن حماية الأرض تعني حماية المعنى، وأن فهم التاريخ لا ينفصل عن صناعة السياسات الوطنية المرتبطة بالهوية.
لقد منحتنا لحظة الإنجاز هذه شعوراً بالاعتزاز، لكنها في الوقت نفسه تفرض علينا التزاماً طويل الأمد بأن نظل أمناء على هذا الإرث العظيم، وأن نستثمره في بناء مجتمع واعٍ بقيمته، فخور بكرامته، يحمله إلى العالم بثقة.
0 تعليق