المسيرات تعيد  تشكيل خرائط الاقتصاد والحرب في القرن الحادي والعشرين - الهلال الإخباري

الفجر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
المسيرات تعيد  تشكيل خرائط الاقتصاد والحرب في القرن الحادي والعشرين - الهلال الإخباري, اليوم الاثنين 14 يوليو 2025 10:19 مساءً

السماء لم تعد حرة..

لم تعد السماء كما كانت، ولم تعد مفتوحة لحلقات الطيران الكلاسيكي ولا محمية فقط بالرادارات التقليدية، ففي عصر أصبحت فيه الطائرة بلا طيار "المسيرة" هي اللاعب الأهم في الجو، تغيرت قواعد الحرب، وتبدلت مفاهيم الصناعة، وتحولت الاستثمارات من مدارج الطيران إلى رقاقات الذكاء الاصطناعي ومراكز التحكم الأرضية، والعالم يعيش اليوم ثورة اقتصادية وصناعية جديدة عنوانها "المسيرات" أو الطائرات دون طيار.

قبل عقدين فقط كانت المسيرات تُعتبر امتيازًا عسكريًا لدى عدد محدود من الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، أما اليوم فقد أصبحت أكثر من 100 دولة حول العالم تمتلك قدرات تصنيع أو تشغيل هذه الطائرات، وتنوعت استخداماتها من الأغراض العسكرية إلى المهام المدنية، بل وتحولت إلى محرك اقتصادي ضخم يُدر مليارات الدولارات سنويًا، ويُعيد تشكيل سلاسل التوريد والأسواق والصناعات المرتبطة بالأمن والنقل والخدمات.

وبحسب تقرير صادر عن شركة "Allied Market Research"، فإن حجم سوق الطائرات دون طيار في العالم قد بلغ نحو 32 مليار دولار في عام 2023، ومن المتوقع أن يتجاوز حاجز 80 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدل نمو سنوي يفوق 12%، وهذا النمو لا يعكس فقط توسعًا في التصنيع، بل في التطبيقات والاستخدامات والمنافسات الجيوسياسية.

والدول الصغيرة التي لطالما عانت من تأخرها التكنولوجي أو من ضعف ترساناتها العسكرية، وجدت في هذه التكنولوجيا فرصة ذهبية لتحقيق ما لم تستطع تحقيقه سابقًا، تركيا على سبيل المثال، لم تكن مصنفة ضمن الدول الأولى في الصناعات الدفاعية التقليدية، لكنها اليوم أحد أبرز منتجي ومصدري المسيّرات في العالم، بفضل طائرات "بيرقدار" التي استخدمت في أوكرانيا وأذربيجان وسوريا وليبيا.

وبفضل هذه المسيرات، دخلت تركيا نادي كبار المصدرين، ووقعت صفقات بمئات الملايين من الدولارات مع دول من آسيا وإفريقيا وأوروبا، والأمر لا يقتصر على تركيا فقط، فإيران طورت مسيّراتها محليًا مثل "شاهد" و"مهاجر"، والصين دخلت السوق بقوة من خلال شركات عملاقة مثل "دي جي آي"، التي تسيطر وحدها على أكثر من 70% من سوق الدرونز المدنية في العالم.

أما إسرائيل فتعتبر من أقدم  الدول في هذا المجال، وتصدر مسيّراتها إلى أكثر من 50 دولة، وتعد من رواد تطوير الأنظمة القتالية المتكاملة للطائرات دون طيار، لكن ليس كل شيء يدور في فلك الحرب.

قطاع الدرونز المدني يشهد انفجارًا في الطلب، خاصة في مجالات مثل الزراعة، حيث تُستخدم لرش المحاصيل وتحليل التربة، وفي الإعلام حيث توفر تصويرًا جويًا عالي الجودة بأقل التكاليف، وفي البنية التحتية، حيث تُستخدم لفحص الجسور وخطوط الكهرباء، وحتى في خدمات التوصيل السريع، حيث تعمل شركات كبرى مثل أمازون وجوجل على تطوير شبكات توصيل تعتمد على الدرونز.

هذه الاستخدامات خلقت طلبًا هائلًا على الصناعات الداعمة مثل البطاريات المتطورة، والشرائح الإلكترونية، والأنظمة البرمجية للتحكم والملاحة، بالإضافة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُمكن المسيّرات من اتخاذ قرارات مستقلة في الجو، وتجنّب العوائق، وتحديد الأهداف بدقة.

ومن أبرز ملامح المرحلة المقبلة في هذه الصناعة، ما يُعرف بـ "المسيرات الانتحارية" أو "الدرونز الكاميكازية"، وهي طائرات صغيرة تُجهز بمتفجرات وتُوجه نحو أهدافها عبر أنظمة متقدمة من التتبع والذكاء الاصطناعي، هذه التقنية غيرت من مفاهيم الحرب التقليدية، لأنها توفر دقة وفاعلية بتكلفة منخفضة، وتتيح للدول خوض صراعات منخفضة التكلفة بدلًا من استخدام الطائرات المأهولة باهظة الثمن والمعرضة للخطر.

وفي هذا السياق تبرز أهمية الذكاء الاصطناعي كأحد محركات النمو في اقتصاد المسيرات، فالتطور في تقنيات الرؤية الحاسوبية، والتعلم الآلي، ومعالجة البيانات، أتاح للمسيرات قدرات غير مسبوقة في التكيف مع البيئات المختلفة، ورصد التغيرات، والتحليق في ظروف جوية صعبة، وحتى اتخاذ قرارات في الوقت الفعلي دون تدخل بشري مباشر.

كما أن هناك سباقًا عالميًا محمومًا للسيطرة على هذه التكنولوجيا، ليس فقط من منظور الاستخدام، بل من منظور السيادة الصناعية، فالدول التي تنتج قطع الغيار والشرائح والبرمجيات المتحكمة في هذه الطائرات تملك اليد العليا في الاقتصاد والسياسة على حد سواء ولهذا نشهد توجهًا من دول مثل الهند والبرازيل والسعودية ومصر نحو توطين صناعة الدرونز، سواء عبر إنشاء مصانع محلية أو عبر شراكات استراتيجية مع شركات عالمية.

ولا يمكن إغفال دور المسيرات في إعادة تشكيل مفاهيم الأمن الداخلي، فالشرطة في كثير من دول العالم باتت تعتمد على المسيرات لمراقبة المظاهرات، وملاحقة المشتبه بهم، وتقديم أدلة مصورة في مسارح الجرائم، كذلك تستخدم في رصد الحدود، ومراقبة التحركات غير القانونية، ومكافحة الحرائق، والبحث والإنقاذ في المناطق الوعرة أو الكوارث الطبيعية.

أما الجانب الاقتصادي، فحدث ولا حرج، الشركات الناشئة التي تعمل في مجال تصميم وتطوير وتطبيقات المسيرات أصبحت من أكثر القطاعات جذبًا للاستثمارات، وفي عام 2022 وحده، ضخت شركات رأس المال المخاطر أكثر من 4.5 مليار دولار في مشاريع الدرونز، مع توقعات بزيادة هذه الاستثمارات بنسبة لا تقل عن 30% سنويًا حتى عام 2030.

وحتى الوظائف نفسها لم تسلم من تأثير هذه الثورة، فهناك طلب متزايد على مهندسي الطيران دون طيار، ومبرمجي الذكاء الاصطناعي، ومصممي واجهات التشغيل، إضافة إلى مدربين متخصصين في قيادة المسيرات، وهو ما أدى إلى نشوء مدارس ومراكز تدريب وشهادات مهنية جديدة تمامًا لم تكن موجودة قبل 10 سنوات.

لكن مع هذه الطفرة، هناك تحديات أيضًا، أبرزها قضايا الخصوصية، والتنظيم القانوني، وخطر الاستخدام الإرهابي أو الإجرامي، ولذلك بدأت معظم دول العالم بسن قوانين جديدة تنظم استخدام الطائرات دون طيار، سواء في المجال الجوي أو من حيث الترخيص والتسجيل، وكذلك بتطوير أنظمة دفاعية مضادة للمسيّرات لحماية المنشآت الحيوية.

وبينما تمضي الدول الكبرى نحو تطوير مسيرات فرط صوتية تتجاوز سرعتها 5 ماخ أو ذات قدرة على البقاء في الجو لأسابيع، نجد أن دولًا نامية بدأت تخطو خطواتها الأولى في هذا المضمار، مدفوعة بالرغبة في تقليص الفجوة التكنولوجية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتحسين مواردها الاقتصادية.

ويمكن القول إن المسيرات لم تعد مجرد تكنولوجيا طائرة، بل باتت رمزًا لعصر جديد من الاقتصاد الحربي والمدني، حيث تتقاطع فيه الجغرافيا بالتقنية، والحرب بالتجارة، والذكاء الصناعي بالبشر، ومن يملك السماء اليوم يملك الكثير على الأرض.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق