نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بناء الديمقراطية بعد النزاعات.. قراءة في تحولات أمريكا الجنوبية - الهلال الإخباري, اليوم السبت 12 يوليو 2025 11:30 مساءً
في التحولات السياسية الكبرى، كثيراً ما تُعزى الديمقراطية إلى صعود الطبقات الاجتماعية أو إلى التحولات الاقتصادية، غير أن التجربة الأمريكية الجنوبية خلال مطلع القرن العشرين تقدم مساراً مختلفاً، إذ نشأت أنظمة ديمقراطية نسبياً من داخل مؤسسات الدولة، عبر تحولات في بنية الجيش ونضوج في أداء الأحزاب، وعبر تراجع سلوكيات التمرد والتدخلات المسلحة، ما أفسح المجال أمام مسار انتخابي جديد.
في هذا العمل البحثي الصادر عن مطبعة جامعة كمبريدج البريطانية في 2025 بعنوان «ولادة الديمقراطية في أمريكا الجنوبية»، يتناول راؤول إل. مدريد تجربة أربع دول شهدت تحولات ديمقراطية نسبية خلال تلك الفترة، وهي كولومبيــا، الأرجنتــين، تشيلـــي، والأوروغواي، حيث بدأت المعارضـة تتخلى تدريجياً عن العنف المسلح واتجهت نحو المسار الانتخابي، فيما شهدت الأنظمة الحاكمة انقسامات داخلية أسهمت فـي فتح المجال أمام إصلاحات دستورية وانتخابية. ورغم استمرار بعض مظاهر التزوير وعدم شمولية الاقتراع، إلا أن هذه التحولات رسّخت نمطاً جديداً من التعددية والانفتاح، وظهرت بوادر احترام للحريات السياسية والمدنية.
خلال القرن التاسع عشر، هيمنت الأنظمة السلطوية على معظم دول أمريكا الجنوبية، واستُخدمت الانتخابات كأدوات شكلية تُدار من قبل النخب الحاكمة، ووقعت تمردات متكررة قادتها قوى المعارضة المسلحة، ما أدى إلى تفاقم العنف وتكرار القمع. الحرب الأهلية الكولومبية المعروفة بـ»حرب الألف يوم» شكّلت إحدى المحطات الأكثر دموية، حيث قُتل ما يقدّر بمئة ألف شخـــص. لكـــن هذه المواجهات المتكررة بدأت تتراجع تدريجياً، وبدأت تظهر ملامح انتقال سياسي مختلف في عدد من الدول.
يرى الكاتب أن تفسير هذه التحولات لا يمكن حصره في العوامل الاجتماعية أو الاقتصادية، إذ لم تَقُد الطبقات العاملة أو البرجوازية هذه الموجة، ولم تكن أكثر الدول تطوراً اقتصادياً هي التي تبنّت الإصلاحات أولاً. إنما برزت مؤسستان لعبتا الدور الأهم في هذه المرحلة: المؤسسة العسكرية من جهة، والأحزاب السياسية من جهة أخرى.
مع نهاية القرن التاسع عشر، استفادت عدة دول من الطفرة الاقتصادية الناتجة عن تصدير المواد الأولية، ما مكّنها من تحديث جيوشها وتوسيع قدراتها العسكرية. وقد أدى ذلك إلى تقليص قدرة المعارضة على شن التمردات، ما دفعها إلى إعادة النظر في أساليب الوصول إلى الحكم، واتجهت إلى العمل الحزبي والمطالبة بإصلاحات انتخابية تتيح فرصاً تنافسية متكافئة.
في المقابل، ساهمت الانقسامات داخل الأحزاب الحاكمة في تسريع مسار الإصلاح، إذ تحالفت بعض أجنحة السلطة مع قوى المعارضة، ودعمت تمرير إصلاحات مكّنت من إجراء انتخابات أكثر نزاهة، ووسّعت هامش الحريات السياسية. أما الدول التي لم تشهد مثل هذه الانقسامات أو لم تستطع بناء مؤسسة عسكرية قوية، فاستمرّت فيها أنماط الحكم السلطوي، وتكررت فيها التمردات والانقلابات، كما فـــــي بوليفيا والإكوادور وباراغواي.
يقدّم هذا الكتاب نموذجاً تفسيرياً جديداً لتحولات الديمقراطية، لا يعتمد على فرضيات التحديث أو صراع الطبقات، بل على إعادة تنظيم العلاقة بين مؤسسات الدولة، وعلى الانتقال من العنف السياسي إلى التفاوض والإصلاح. ومن خلال هذا الإطار، تصبح التجربة الأمريكية الجنوبية مجالاً غنياً لتحليل ديناميات التغيير السياسي في الدول الخارجة من النزاعات الداخلية والمتجهة نحو أنماط أكثر استقراراً.
0 تعليق